الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:قوله: {أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} أي: أخرجت وهذه الجملة في محلِّ جرٍّ؛ لأنها صفةٌ لحبة، كأن قيل: كمثل حبَّةٍ منبتةٍ.وأدغم تاء التأنيث في سين سَبْع أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وهشامٌ. وأظهر الباقون، والتاء تقارب السين، ولذلك أُبدلت منها؛ قالوا: ناسٌ، وناتُ، وأكياسٌ، وأكياتٌ؛ قال: الرجز:أي: شرار الناس، ولا أكياسِ.وجاء التَّمييز هنا على مثال مفاعل، وفي سورة يوسف مجموعًا بالألف والتَّاء، فقال الزمخشريُّ: فإنْ قلتَ: هلاَّ قيل: {سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ} على حقِّه من التمييز بجمع القلَّة، كما قال: {وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ} [يوسف: 43 و46]. قلت: هذا لما قدَّمت عند قوله: {ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] من وقوع أمثلة الجمع متعاورةً مواقعها.يعني: أنه من باب الاتساع، ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر، وهذا الذي قاله ليس بمخلِّص، ولا محَصِّلٍ، فلابد من ذكر قاعدةٍ مفيدة في ذلك:قال شهاب الدين رحمه الله: اعلم أن جمعي السَّلامة لا يميَّز بهما عددٌ إلا في موضعين:أحدهما: ألا يكون لذلك المفرد جمعٌ سواه، نحو: سبع سموات، وسبع بقرات، وسبع سنبلات، وتسع آيات، وخمس صلوات، لأنَّ هذه الأشياء لم تجمع إلا جمع السلامة، فأمَّا قوله: الطويل: فشاذٌ، منصوصٌ على قلَّته، فلا يلتفت إليه.والثاني: أن يعدل إليه لمجاوزة غيره، كقوله: {وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ} [يوسف: 43 و46] عدل من سَنَابِلَ إِلى {سُنْبُلاَتٍ}؛ لأجل مجاورته {سَبْعَ بَقَرات}، ولذلك إذا لم توجد المجاورة، ميِّز بجمع التكسير دون جمع السلامة، وإن كان موجودًا نحو: سَبْعَ طَرَائِق، وسَبْعِ لَيَالٍ مع جواز: طريقات، وليلات.والحاصل أنَّ الاسم إذا كان له جمعان: جمع تصحيح، وجمع تكسيرٍ، فالتكسير إمَّا للقلة، أو للكثرة، فإن كان للكثرة: فإمَّا من باب مفاعل، أو من غيره، فإن كان من باب مفاعل، أُوثر على التصحيح، تقول: ثلاثة أحَامِدَ، وثَلاَثُ زَيَانِبَ، ويجوز قليلًا: أَحْمَدِينَ وَزَيْنَبَات.وإن كان من غير باب مفاعل: فإمَّا أن يكثر فيه من غير التصحيح، وغير جمع الكثرة، أو يقلَّ.فإن كان الأول: فلا يجوز التصحيح، ولا جمع الكثرة إلا قليلًا؛ نحو: ثَلاثَةُ زُيُودٍ، وَثَلاثُ هُنُودٍ، وثَلاَثَةُ أَفْلُسٍ، ولا يجوز: ثلاثةُ زيْدِينَ، ولا ثَلاَثُ هِنْدَات، ولا ثَلاَثةُ فُلُوسٍ، إلاَّ قليلًا.وإن كان الثاني: أُوثر التصحيح وجمع الكثرة، نحو: ثلاثُ سُعَادَات، وثلاثة شُسُوع، وعلى قلّة يجوز: ثَلاثُ سَعَائد، وثلاثةُ أشْسُع. فإذا تقرَّر هذا، فقوله: {سَبْعَ سَنَابِلَ} جاء على المختار، وأمَّا قوله: {سَبْعِ سُنْبُلاَتٍ}؛ فلأجل المجاورة كما تقدَّم.وقيل: لمَّا كان الكلام- ها هنا- في تضعيف الأجر، ناسبها جمع الكثرة، وفي سورة يوسف ذكرت في سياق الكلام في سني الجدب؛ فناسبها التقليل؛ فجمعت جمع القلة.والسُّنْبُلَةُ فيها قولان:أحدهما: أنَّ نونها أصليةٌ؛ لقولهم: سَنْبَلَ الزرعُ أي: أخرج سنبله.والثاني: أنها زائدةٌ، وهذا هو المشهور؛ لقولهم: أَسْبَلَ الزرعُ، فوزنها على الأول: فُعلُلَةٌ، وعلى الثاني: فُنْعُلَة، فعلى ما ثبت من حكاية اللُّغتين: سَنْبَلَ الزرعُ، وأسْبَلَ تكون من باب سَبِط وسِبَطْر.قال القرطبي: من أسْبَلَ الزرعُ: إذا صار فيه السُّنبل، كما يسترسل الستر بالإسبال وقيل: معناه: صار فيه حبٌّ مستورٌ، كما يستر الشيء بإسبال السَّتر عليه.قوله: {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ} هذا الجارُّ في محلِّ جر؛ صفةً لسنابل، أو نصبٍ؛ صفةً لسبع، نحو: رأيت سبع إماءٍ أحرارٍ، وأحرارًا، وعلى كلا التقديرين فيتعلَّق بمحذوفٍ.وفي رفع مائة وجهان:أحدهما: بالفاعلية بالجارِّ؛ لأنه قد اعتمد إذ قد وقع صفةً.والثاني: أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره، والجملة صفةٌ، إمَّا في محلِّ جرٍّ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم، إلاَّ أنَّ الوجه الأول أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات، دون الجمل. ولابد من تقدير حذف ضميرٍ، أي: في كلِّ سنبلة منها، أي: من السنابل.والجمهور على رفع: {مِائَة} على ما تقدَّم، وقرئ: بنصبها.وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين:أحدهما: بإضمار فعلٍ، أي: أَنْبَتَتْ، أو أَخْرَجَتْ.والثاني: أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره، والجملة صفةٌ، إمَّا في محلِّ جرٍّ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم، إلاَّ أنَّ الوجه الأول أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات، دون الجمل. ولابد من تقدير حذف ضميرٍ، أي: في كلِّ سنبلة منها، أي: من السنابل.والجمهور على رفع: {مِائَة} على ما تقدَّم، وقرئ: بنصبها.وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين:أحدهما: بإضمار فعلٍ، أي: أَنْبَتَتْ، أو أَخْرَجَتْ.والثاني: أنها بدلٌ من {سَبْعِ}، وردَّ بأنَّه لا يخلو: إمَّا أن يكون بدل كلِّ من كلٍّ، أو بدل بعضٍ من كلٍّ، أو بدل اشتمالٍ.فالأول: لا يصحُّ؛ لأنَّ المائة ليست كلَّ السبع سنابل.والثاني: لا يصحُّ أيضًا؛ لعدم الضمير الراجع على المبدل منه، ولو سلِّم عدم اشتراط الضمير، فالمئة ليست بعض السبع؛ لأنَّ المظروف ليس بعضًا للظرف، والسنبلة ظرفٌ للحبة، ألا ترى قوله: {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ} فجعل السُّنْبُلَة وعاءٌ للحَبِّ.والثالث أيضًا لا يصحُّ؛ لعدم الضَّمير، وإن سُلِّم، فالمشتمل على {مِائَةِ حَبَّةٍ} هو سنبلة من سبع سنابل، إلا أن يقال إنَّ المشتمل على المشتمل على الشيء، هو مشتملٌ على ذلك الشيء، فالسنبلة مشتملةٌ على مائة والسنبلة مشتمل عليها سبع سنابل، فلزم أنَّ السبع مشتملةٌ على {مائة حبة}.وأسهل من هذا كلِّه أن يكون ثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: حبَّ سَبْع سَنَابِلَ، فعلى هذا يكون {مِائَةُ حَبَّةٍ} بدل بعضٍ من كل. اهـ. بتصرف. .التفسير الإشاري: قال نظام الدين النيسابوري:التأويل: إن الله تعالى لما أعطى نمرود ملكًا ما أعطى أحدًا قبله ادّعى الربوبية وما ادّعاها أحد قبله. وسبب ذلك أن الإنسان لحسن استعداده للطلب وغاية لطافته في الجوهر دائم الحركة في طلب الكمال لا يتوقف لحظة إلا لمانع، ولكنه جبل ظلومًا جهولًا، فمتى وكل إلى نفسه مال إلى عالم الحس، موافقًا لسيره الطبيعي لأنه خلق من تراب وطبعه الميل إلى السفل فيرى الكمال في جمع المال ثم طلب الجاه فيصرف المال فيه ثم في الحكم والتسلط. فإذا ملك السفليات بأسرها وقهر ملوك الأرض أراد أن ينازع ملك الملوك وجبار الجبابرة فيقول: أنا أحيي وأميت، وليس للعالم رب إلا أنا جهلًا بالكمال وذلك عند فساد جوهره وبطلان استعداده، كما أنه إذا صلح جوهره بحسن تربية النبي صلى الله عليه وسلم أو من ينوب منابه- وهو الشيخ- قال: ليس في الوجود سوى الله.وهذا هو حقيقة {فاعلم أن لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} [محمد: 19] يعني كن فانيًا عن وجودك بالكلية، واستغفر لذنب حسبان وجود غير وجوده فافهم جدًا وإن لم تكن مجدًا، فإن المجد من يدق بمطرقة «لا إله إلا الله» دماغ نمرود النفس إلى أن يؤمن بالله ويكفر بطاغوت وجوده كل ما سوى الله. {قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} اعتراض على قول الكافر أنا أحيي وأميت، والمراد أن إرسال النفس الناطق لتدبير البدن اطلاع شمس الحياة من أفق البدن، فإن كنت صادقًا في دعواك أن هذا يتأتى منك فأمسكها عندك وهو الإتيان بالشمس من مغربها، وأنه آية القيامة من مات فقد قامت قيامته. {فبهت الذي كفر} لأنه إن أمكنه أن يدعي الإحياء بمعنى الإبقاء وهو اطلاع الشمس من المشرق، فلن يمكنه أن يدعي الإماتة بمعنى قبض الروح من غير آلة القتل وهو الإتيان بالشمس من المغرب، فهذه طريقة لا يرد عليها شيء من الاعتراضات المذكورة في التفسير. ثم أخبر عن إظهار قدرته في إحياء الموتى بعد انقطاع المدعي في حجته عقيب الدعوى بقوله تعالى: {أو كالذي مر على قرية} وذلك أن قومًا أنكروا حشر الأجساد بعد اعترافهم بحشر الأرواح، وزعموا أن الأرواح إذا خرجت من سجن الأشباح وتقوت بالعلوم الكلية التي استفادتها من عالم الحس فما حاجتها أن ترجع إلى السجن والقيد، كما أن الصبي إذا استفاد العلوم في المكتب وكبر قدره وعظم وقعه لم يحتج إلى أن يرجع إلى المكتب وحال صباه، فهو سبحانه لكمال فضله ورأفته دفع هذه التسويلات النفسية ورفع هذه الشبهات الفلسفية بأن أمات عزيرًا مائة سنة وحماره معه ثم أحياهما جميعًا ليعلم أن الله تعالى مهما أحيا عزير الروح أحيا معه حمار الجسد، وكما أن عزير الروح يكون عند الملك الجبار يكون حمار الجسد في جنات تجري من تحتها الأنهار. فلعزير الروح مشرب من كؤوس تجلي صفات الجلال والجمال {وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا} [الدهر: 21] «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» ولحمار الجسد مرتع من الرياض ومشرب من الحياض {فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} [الزخرف: 71] و{قد علم كل أناس مشربهم} [البقرة: 60].ثم أكد حديث الحشر بقصة عن خليله صلى الله عليه وسلم وذلك قوله: {رب أرني كيف تحيي الموتى} فيفوح منه رائحة قول موسى {رب أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143] إلا أن موسى لم يحفظ الأدب في الطلب فما رأى غير النصب والتعب، وأدب بتأديب الخاطئ الجاني، وعرك بتعريك {لن تراني} وذلك أنه كان صاحب شرب وكان الخليل صاحب ري، وصاحب الشرب سكران، وصاحب الري صاح. فلسكر موسى كان يبسط تارة مع الحق بقوله: {رب أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143] ويعربد أخرى بقوله: {إن هي إلا فتنتك} [الأعراف: 155] ومن كمال صحو الخليل ما زل قدمه في أدب من اداب العبودية في الحضور والغيبة فلا جرم أكرم اليوم بكرامة الشيبة «إن أول ما شاب شيبة إبراهيم» ويحترم غدًا بالكسوة «إن أول من يكسى إبراهيم» ولما ابتلي في ماله فبذل للضيفان وابتلي في ولده فأسلم وتله للجبين وابتلي بنفسه فاستسلم لمنجنيق ابن كنعان، وابتلي بجبرائيل فقال: أما إليك فلا. لا جرم أكرمه الله بالإمامة {إني جاعلك للناس إمامًا} [البقرة: 124] ومن إمامته أنه كان أول من دق باب طلب الحق وقال: {هذا ربي} [الأنعام: 76] وأول من سلك طريق الحق وقال: {إني ذاهب إلى ربي} [الصافات: 69] وأول من نطق بالمحبة وقال: {لا أحب الآفلين} [الأنعام: 76] وأول من أظهر الشوق وقال: {لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين} [الأنعام: 78] وأول من أظهر العداوة مع غير المحبوب {فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين} [الشعراء: 77] وأول من اشتاق فسأل الرؤية وقال: {رب أرني} ولا تظن أن اشتياقه إلى الرب إنما كان وقت سؤاله. ولكنه من حفظ آداب الإجلال كان لا يفتح على نفسه باب السؤال، ويقول حسبي من سؤالي علمه بحالي إلى أن ساقه التقدير إلى حسن التدبير. وسأله نمرود من ربك؟ فأجرى الحق على لسانه من فضله وإحسانه {ربي الذي يحيي ويميت} فقال نمرود: هل رأيت منه ما تقول؟ فوجد الخليل فرصة للمأمول فأدرج في السؤال السول فأخفى سره وهو أدنى في علينه وهو {كيف تحيي الموتى} وهو يعلم أنه يعلم السر وأخفى. فأول باب فتح عليه من مقصوده أن أسمعه من كلامه بفضله وجوده. و{قال أولم تؤمن} فكان في هذه الكلمة من إعجاز القرآن ثلاثة معان مضمرة: أو لم تؤمن وقت ما آمنت عند نمرود بأني أحيي وأميت فما كان إيمانك حقيقًا؟ أو لم تؤمن لميعاد رؤيتي في الجنة فأريك ثمة؟ أو لم تؤمن بما طلبت من الإحياء؟ مضمرًا في كل منها الإثبات في لفظة النفي. فأجاب الخليل عن الاستفهامات الثلاثة ببلى سرًا بسر أي بلى آمنت. وكان إيمانًا حقيقيًا ولكن ما كان مقصودي الإيمان والإيقان فإنه حاصل، ولا إحياء الموتى فإني فارغ من الموتى وإحيائهم، ولكني سألت ليطمئن قلبي بما تريد، أو بلى آمنت بميعاد رؤيتك في الجنة ولكن ليطمئن قلبي برؤيتك، فإنه كلما ازداد اليقين ازداد الشوق فاضطراب قلبي من غاية يقيني، أو بلى آمنت بقدرتك على الإحياء ولكن ما سألتك عن الإحياء وإنما سألتك عن كيفية الإحياء، ففي ضمن ذلك يحصل مقصودي كما أن من له معشوق خياط وهو يريد مشاهدة معشوقه ويحتشم أن يقول: أرني وجهك لأنظر إليك.لأنه يعلم أن الدلال فرين الجمال، وأن العزة والحسن توأمان: وفي مذهب الملاح الطلب رد والسبيل سد فيقول: أرني كيف تخيط الثياب؟ فكل صانع فاخر في صنعته يريد أن يرى جودة عمله فيحضر المعشوق عنده بلا حجاب وهو يخيط الثوب فيقول: انظر إليّ كيف أخيطه؟ فالعاشق ينظر بعلة الصنع إلى الصانع ويحظى منه بلا مانع ودافع ويطمئن قلبه بذلك. فالخليل لما اعتذر عن الجليل من اضطراب قلبه واضطرار حاله وتضرع بين يدي مولاه، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه حقق رجاءه وقال: {خذ أربعة من الطير} الآية. والمراد أنك محجوب بك عني فبحجاب صفاتك عن صفاتي محجوب، وبحجاب ذاتك عن ذاتي ممنوع، فمهما تموت عن صفاتك تحيا بصفاتي، فإذا فنيت عن ذاتك بقيت ببقاء ذاتي {فخذ أربعة من الطير} وهي الصفات الأربع التي تولدت من العناصر الأربعة التي خمرت طينة الإنسان منها فتولدت من ازدواج كل عنصر مع قرينه صفتان: فمن التراب وقرينها وهو الماء تولد الحرص والبخل وهما قرينان يوجدان معًا، ومن الناء وقرينها وهو الهواء تولد الغضب والشهوة، ولكل واحد من هذه الصفات زوج خلق منها ليسكن إليها. فالحرص زوجه الحسد، والبخل زوجه الحقد، والغضب زوجه الكبر، وليس للشهوة اختصاص بزوج معين بل هي كالمعشوقة بين الصفات فتعلق بها كل صفة، فهن الأبواب السبعة للدركات السبع من جهنم {لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} [الحجر: 44] يعني من الخلق. فمن كان الغالب عليه صفة منها دخل النار من ذلك الباب، فأمر الله تعالى خليله بذبح هذه الصفات وهي الطيور الأربعة، طاوس البخل فلو لم يزين المال في نظر البخيل ما بخل به، وغراب الحرص وبكوره من حرصه، وديك الشهوة، ونسر الغضب لترفعه في الطيران وهذه صفة المغضب. فلما ذبح الخليل بسكين الصدق هذه الطيور وانقطعت منه متولداتها ما بقي له باب يدخل به النار فصارت النار عليه لما ألقي فيها بردًا وسلامًا. والمبالغة في تقطيعها ونتف ريشها وخلط أجزائها إشارة إلى محو آثار الصفات المذكورة وهدم قواعدها علي يدي إبراهيم الروح بأمر الشرع {ثم اجعل على كل جبل} هي الجبال الأربعة التي جبل الإنسان عليها: النفس النامية وهي النباتية، والأرواح الثلاثة الحيواني والطبيعي والإنسان الملكي. فهذه الجبال كالأشجار والزروع، وأجزاء الطيور كالتراب المخلوط بالزبل يجعل على الزروع فيتقوى كل واحد من هؤلاء بقوّة واحد من أولئك، ويتربى بتربيتها ويتصرف فيها الروح الإنساني فيحييها بنور هو من خصائص أرواح الإنسان، فتكون تلك الصفات ميتة عن أوصافها حية باخلاق الروحانيات. هذا لخواص الخلق الذي الغالب على أحوالهم الروح، وأما خواص الخواص ومن أدركته العناية كالخليل، فالله تعالى بعد خمود هذه الصفات يتجلى له بصفته المحيي فيحيي هذه الصفات الفانية عن أوصافها بنور صفته المحيية فيكون العبد في تلك الحالة حيًا بحياته محييًا بصفاته كما قال: «لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعًا وبصرًا ولسانًا ويدًا فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يبطش» كما أن أميًا يقول لكاتب: أرني كيف تكتب. فيجعل الكاتب قلمه في يد الأمي ويأخذ يده بيده ويكتب فتظهر الكتابة من يدي الأمي على الصحيفة، ففي تلك الحالة يظن الأمي أنه صار كاتبًا فيقول أنا الكاتب كقوله: فإذا رفع الكاتب يده عن يد الأمي فيعلم الأمي أنه أمي والكاتب هو الكاتب فيستغفر عن ذنب حسبانه أنه هو الكاتب وإليه الإشارة بقوله: {واستغفر لذنبك} [محمد: 19] أي ذنب حسبان أنك كاتب وأنت نبي أمي عربي ما وصلت إلى ما وصلت إلا بفضلنا {وكان فضل الله عليك عظيمًا} [النساء: 113] ثم إن الله تعالى إن تجلى لخليله بصفة واحدة وهي صفة المحيي ليريه آية من آياته وهي كيفية الإحياء، فقد تجلى لحبيبه بجميع صفاته ليلة المعراج كما قال: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 18] والخليل طلب الرؤية لنفسه {رب أرني} والحبيب طلبها له ولأمته «أرنا الأشياء كما هي» وذلك لعلو مرتبته وهمته ورفعته وكمال معرفته، فلعلو همته قال: أرنا. ولرفعة مرتبته قال: الأشياء كما هي، فإن فيه مع رعاية الأدب إخفاء المقصود. فكان قول الخليل بالنسبة إلى هذا تصريحًا وإن كان بالنسبة إلى قول الكليم تعريضًا. وفيه أيضًا طلب كمال الرؤية بجميع الصفات فإن جميعها داخلة في الأشياء، ولكمال معرفته طلب رؤية الماهية فقال «كما هي» وهذا هو الملك الحقيقي الذي لا يكتنه كنهه. ثم قيل للخليل {واعلم أن الله عزيز} أعز من أن يعرف كنه صفاته {حكيم} لا يطلع على أسراره إلا من يليق بذلك من مخلوقاته. اهـ.
|